فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (70):

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله خلقكم}: أظهركم إلى عالم الشهادة، {ثم يتوفاكم}: يردكم إلى عالم الغيب عند انتهاء آجالكم، {ومنكم مَن يُردُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ} أي: أخسه، يعني: الهِرَم والخرف، الذي يشابه الطفولية في نقصان القوة والعقل. وقيل: هو خمس وتسعون سنة، وقيل: خمس وسبعون سنة، والتحقيق: أن ذلك لا ينضبط بسن. {لكي لا يَعْلَم بعد عِلْمٍ شيئًا}؛ ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفولية، في نقصان العقل والنسيان وسوء الفهم. وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل عبارة عن قلة العلم؛ لغلبة النسيان. وقيل: المعنى: لئلا يعلم زيادة على علمه شيئًا. قال عكرمة: (من قرأ القرآن لم يصر بهذه المنزلة).
قلت: جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي تخصيص القارئ للقرآن بالمتبع له، وأنه الذي يُمتعه الله بعقله حتى يموت، وهو الذي يشهد له الحس، أي: الوجود في الخارج، بالصدق، لوجود الخرف في كثير ممن يحفظه. قاله في الحاشية.
{إن الله عليم قدير} أي: عليم بمقادير الأشياء وأوقاتها، قدير على إيجاد الأشياء وإعدامها، عند انتهاء آجالها، فيميت الشاب النشط عند تمام أجله، ويبقى الهرم الفاني إلى انقضاء أجله. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن تفاوت أعمار الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم، وعدل أمزجتهم، على قدر معلوم، ولو كان في ذلك بمقتضى الطبائع لم يقع التفاوت إلى هذا المبلغ. اهـ.
الإشارة: الخلق والتوفي هو من جملة الظهور والبطون، عند أهل التوحيد الخاص، والرد إلى أرذل العمر لا يلحق العارفين بالله. وقد قيل، في استثناء قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العَصر: 3] من الرد إلى أسفل سافلين: إن الصالح لا يدركه الخَرف وإن أدركه الهرم. وذلك دليل على سعادته، وعدم تشويه صورته في الآخرة، والله تعالى قادر على وقاية أوليائه مما يشين به أعداءه عاجلاً. وفي الحديث: «إذا قرأ الرجلُ القرآنَ، واحتْشَى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: امتلأ- وكانتْ هناك غزيرةٌ- يعني: فقه نفس ومعرفة-، كان خليفةً من خلفاء الأنبياء».

.تفسير الآية رقم (71):

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق}، فمنكم غني ومنكم فقير، ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم، {فما الذين فُضِّلوا}؛ وهم الموالي، أي: السادات، {برادِّي رِزقهم}: بمعطي رزقهم {على ما ملكتْ أيمانُهم}: على مماليكهم، أي: ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها، شركة بينهم وبين مماليكهم، {فهُم} أي: المماليك {فيه سواءٌ} مع ساداتهم. وهو احتجاج على وحدانيته تعالى، وإنكارٌ ورد على المشركين، فكأنه يقول: أنتم لا تسَوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الزرق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، بل تأنفون من ذلك، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي؟! وهذا كقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الرُّوم: 28]. ويحتمل أن يكون ذمًا وعتابًا لمن لا يحسن إلى مملوكه، حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما في الحديث: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون».
{أفبنعمة الله يجحدون}، حيث يجعلون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا هذه الحجج، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، أو حيث بخسوا مماليكهم مما يجب لهم من الإنفاق. على التفسير الثاني.
الإشارة: والله فضَّل بعضكم على بعض في أرزاق العلوم، والأسرار والمواهب، فمنكم غني بالله، ومنكم فقير منه في قلبه، ومنكم عالم به ومنكم جاهل، ومنكم قوي اليقين ومنكم ضعيف، فما الذين فُضِّلوا بالعلوم اللدنية والأسرار الربانية برادِّي تلك العلوم على الجهلة وضعفاء اليقين، بأن يُطلعوهم على أسرار الربوبية قبل استحقاقها- فإن ذلك بخس بحقها- حتى يرونهم أهلاً لها؛ بأن يبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، ويملكون لهم رقابهم يتصرفون فيها تصرف المالك في مملوكه، فحينئذ يشاركونهم فيما منحهم الله من أرزاق العلوم وأسرار الفهوم، وقد قيل: لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
سأكْتُمُ عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي ** ولا أنْثُرُ الدُرّ النَّفيس على البَهم

فإنْ قَدَّر اللهُ الكَريمُ بِلُطْفِهِ ** ولاقَيتُ أهلاً للعُلُوم وللحِكَمْ

بَذلْتُ عُلُومِي واستَفَدْتُ عُلومَهُم ** وإِلاَّ فمخْزُونٌ لَدَيّ ومُكْتَتمْ

فمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ ** ومَنْ مَنَعَ المستوجِبين فَقَد ظَلَمَ

.تفسير الآية رقم (72):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)}
قلت: الحفدة: جمع حافد، وهو الخديم المسرع في الخدمة، والحفْد في اللغة: الخدمة، ومنه في القنوت: وإليك نسعى ونحفد، أي: نسرع في خدمتك. وسموا أولاد الأولاد حفدة؛ لأنهم يُسرعون في خدمة جدهم، حين كبر ولزم الدار، وقيل: هم البنات؛ لأنهن يخدمن الدار.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا}؛ حيث خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطفة الرجال، والنساء خلقهن لكم، لتتأنسوا بهن، ولتتمتعوا بهن في الحلال، وليكون أولادكم مثلكم. {وجعل لكم من أزواجكم بَنين} من صلبكم {وحفَدةً}؛ أولاد أولادكم أو بناتكم؛ فإن البنات يخدمن في البيوت أشد الخدمة، أو الأصهار من قِبل النساء، أو الخدَم، {ورزقكم من الطيبات}؛ من اللذائذ والمشتهيات؛ كأنواع الثمار والحبوب والفواكه، والحيوان؛ أكلاً وركوبًا وزينة، أو الحلالات، و{من}: للتبعيض؛ فإن طيبات الدنيا أنموذج من نعيم الآخرة. {أفَبِالباطل يؤمنون} وهو أن الأصنام تنفعهم؛ لأن الأصنام باطلة لا حقيقة لوجودها، وإضافة النفع لها: كفرٌ بنعمة الله، ولذلك قال: {وبنعمة الله هم يكفرون}؛ حيث أضافوها إلى أصنامهم، أو حيث حَرَّموا منها ما أحله الله لهم كالبحائر والسوائب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والله جعل لكم من أنفسكم المطهرة أصنافًا من العلوم اللدنية. قال أبو سليمان الداراني: (إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة، من غير أن يؤدي إليها عالم علمًا). وجعل لكم من تلك العلوم بنين روحانيين، وهو التلامذة، يحملون تلك العلوم، وحفدة: من ينقل ذلك عنهم إلى يوم القيامة، ورزقكم من الطيبات، وهي حلاوة المعرفة عند العارفين، وحلاوة الطاعات عند المجتهدين. أفبالباطل- وهو ما سوى الله- يؤمنون، فيقفون مع الوسائط والأسباب، ويغيبون عن مسبب الأسباب، وبنعمة الله- التي هي شهود الحق بلا وسائط- هم يكفرون.

.تفسير الآيات (73- 74):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}
قلت: {رِزْقًا}: مفعول بيملك، فيحتمل أن يكون مصدرًا، أو اسمًا لما يرزق، فإن كان مصدرًا، فشيئًا مفعول به؛ لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسمًا، فشيئًا بدل منه. وجمع الضمير في {يستطيعون}، وأفرده في {يمْلك}؛ لأن {ما} مفردة؛ لفظًا، واقعة على الآلهة، فراعى أولاً اللفظ، وفي الثاني المعنى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويعبدون من دون الله} أي: غيره {ما لا يَملك لهم رزقًا من السماوات}؛ بالمطر {والأرض}؛ بالنبات، فلا يرزقونهم من ذلك {شيئًا ولا يستطيعون}: لا يقدرون على شيء من ذلك؛ لعجزهم، وهم الأصنام، {فلا تضربوا لله الأمثالَ}؛ لا تجعلوا له أشباهًا تشركونهم به، أو تقيسونهم عليه، فإنَّ ضرب المثل تشبيه حال بحال، {إنَّ الله يعلمُ} ألاَّ مِثلَ لَه، أو فساد ما يقولون عليه من القياس، {وأنتم لا تعلمون} ذلك، ولو علمتموه لما تجرأتم عليه، فهو تعليل للنهي، أي: إنه يعلم كنه الأشياء، وأنتم لا تعلمون، فدعوا رأيكم، وقفوا عندما ما حد لكم.
الإشارة: كل من ركن إلى شيء دون الحق تعالى، أو اعتمد عليه في إيصال المنافع أو دفع المضار، تصدق عليه الآية، وتجر ذيلها عليه، فلا تجعلوا لله أمثالاً تعتمدون عليهم وتركنون إليهم، فالله يعلم من هو أولى بالاعتماد عليه والركون إليه، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو تعلمون ولا تعملون، ولقد قال من عَلِمَ ذلك وتحقق به:
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّد الله رَبَّهُ ** وأَفْرَدَهُ أَن يجتدي أَحَدًا رِفْدا

فَيَا صَاحِبِي قِفْ عَلَى الحَقِّ وَقْفةً ** أمُوتُ بِها وَجْدًا وأحْيَا بِها وجَدا

وقُلْ لملوكِ الأرْضِ تَجْهدَ ** فَذَا المُلْكُ مُلكٌ لا يُبَاعُ ولا يُهْدَى

قال سهل رضي الله عنه: «ما من قلب ولا نفس إلا والله مطلع عليه في ساعات الليل والنهار، فايما نفس أو قلب رأى فيه حاجة إلى غَيْرِهِ، سلط عليه إبليس». وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رضي الله عنه: من علامة المعرفة: ألا تسأل حوائجك، قلَّتْ أو كثُرت، إلا من الله سبحانه، مثل موسى عليه السلام؛ اشتاق إلى الرؤية، فقال: رب أرني أنظر إليك، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال: رب إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير. اهـ. وقال في التنوير: اعلم، رحمك الله، أن رفع الهمة عن المخلوقين، وعدم التعرض لهم، أزين لهم من الحليّ للعروس، وهم أحوج إليه من الماء لحياة النفوس... إلخ كلامه رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (75- 76):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)}
قلت: {عبدًا}: بدل من {مَثَلاً}، و{مَن}: نكرة موصوفة، أي: عبدًا مملوكًا، وحرًا رزقناه منا رزقًا حسنًا، وقيل: موصولة. و{سرًّا وجهرًا}: على إسقاط الخافض، وجمع الضمير في {يستوون}؛ لأنه للجنسين، و{رجلين}: بدل من: {مَثَلاً}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ضَرَبَ اللهُ مثلاً} لضعف العبودية، وعظمة الربوبية، ثم بيَّنه فقال: {عبدًا مملوكًا لا يقدرُ على شيءٍ}، وهذا مثال للعبد، {ومن رزقناه} أي: وحرًا رزقناه {مِنا رزقًا حسنًا فهو} يتصرف فيه كيف يشاء، {ينفق منه سرًا وجهرًا}، وهذا: مثال للرب تبارك وتعالى، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
وقيل: هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك؛ للتمييز من الحر؛ فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ الذي لا شوب حرية فيه، بل هي أعجز منه بكثير، فكيف تضاهي الواحد القهار، الذي لا يعجزه مقدور؟ ولذلك قال: {هل يستوون}؟ أي: العبيد العجزة، والمتصرف بالإطلاق. {الحمد لله} على بيان الحق ووضوحه؛ لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره، فضلاً عن العبادة؛ لأنه مولى النعم كلها. {بل أكثرهم لا يعلمون} أي: لا علم لهم: فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: {وضَرَبَ اللهُ مثَلاً}، ثم بيًّنه بقوله: {رجلين أحدهما أبْكَمُ}؛ وُلد أخرس، لا يَفهم ولا يُفهم، {لا يقدر على شيء} من الصنائع والتدابير؛ لنقصان عقله، {وهو كَلٌّ} أي: ثقيل عيال {على مولاه} الذي يلي أمره، {أينما يُوجهه}: يُرسله في حاجة أو أمر {لا يأتِ بخير}؛ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. {هل يستوي هو} أي: الأبكم المذكور، {ومَن يأمر بالعدل}؛ ومن هو مِنطيقٌ متكلم بحوائجه، ذو كفاية ورشد، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل، {وهو على صراط مستقيم} أي: وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي؟
وهذا مثال للحق تعالى، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل: للكافر والمؤمن. والأصوب: كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام؛ لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحق تعالى موصوف بكمالات الربوبية، منعوت بعظمة الألوهية، وعبيده موسومون بنقائص العبودية، وقهرية الملكية. فمن أراد أن يمده الله في باطنه بكمالات الربوبية؛ من قوة وعلم، وغنى وعز، ونصر وملك، فليتحقق في ظاهره بنقائص العبودية؛ من ذل، وفقر، وضعف، وعجز، وجهل. فبقدر ما تجعل في ظاهرك من نقائص العبودية يمدك في باطنك بكمالات الربوبية؛ «تحقق بوصفك يمدك بوصفه»، والتحقق بالوصف إنما يكون ظاهرًا بين خلقه، لا منفردًا وحده؛ إذ ليس فيه كبير مجاهدة؛ إذ كل الناس يقدرون عليه، وإنما التحقق بالوصف- الذي هو ضامن للمدد الإلهي- هو الذي يظهر بين الأقران. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (77- 78):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
قلت: {أمهات}: جمع أم، زيدت فيه الهاء؛ فرقًا بين من يعقل ومن لا يعقل، قاله ابن جزي. والذي لغيره حتى ابن عطية: إنما زيدت؛ لمبالغة والتأكيد. وقرئ بضم الهمزة، وبكسرها؛ اتباعًا للكسرة قبلها.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ولله غيبُ السماواتِ والأرض} أي: يعلم ما غاب فيهما، كان محسوسًا أو غير محسوس؛ قد اختص به علمه، لا يعلمه غيره. ثم برهن على كمال قدرته فقال: {وما أمرُ الساعةِ} أي: قيام القيامة، في سرعته وسهولته، {إلا كلمح البصر}؛ كرد البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها، {أو هو أقرب}: أو أمرها أقرب منه؛ بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل أقل؛ لأن الحق تعالى يحيي الخلائق دفعة واحدة، في أقل من رمشة عين، و{أو} للتخيير، أو بمعنى بل. {إن الله على كل شيء قدير}؛ فيقدر على أن يُحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن يوجدهم بالتدريج.
ثم دلَّ على قدرته فقال: {والله أخرجكم من بُطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا}؛ جهالاً، {وجعل لكم السمعَ} أي: الأسماع {والأبصارَ والأفئدة} أي: القلوب، فتكتسبون، بما تُدركون من المحسوسات، العلوم البديهية، ثم تتمكنون من العلوم النظرية بالتفكر والاعتبار، ثم تُدركون معرفة الخالق {لعلكم تشكرون} نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، أظهركم أولاً من العدم، ثم أمدكم ثانيًا بضروب النعم، طورًا بعد طور، حتى قدمتم عليه.
وقدَّم في جميع القرآن نعمة السمع على البصر؛ لأنه أنفع للقلب من البصر، وأشد تأثيرًا فيه، وأعم نفعًا منه في الدين؛ إذ لو كانت الناس كلهم صمًا، ثم بُعِثت الرسل، فمن أين يدخل عليهم الإيمان والعلم؟ وكيف يدركون آداب العبودية وأحكام الشرائع؟ إذ الإشارة تتعذر في كثير من الأحكام، وإنما أفرده، وجمع الأبصار والأفئدة؛ لأن متعلق السمع جنس واحد، وهي الأصوات، بخلاف متعلق البصر، فإنه يتعلق بالأجرام والألوان، والأنوار والظلمات، وسائر المحسوسات، وكذلك متعلق القلوب؛ معاني ومحسوسات، فكانت دائرة متعلقهما أوسع مع متعلق السمع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما غاب في سماوات الأرواح من علوم أسْرار الربوبية، وفي أرض النفوس من علوم أحكام العبودية، هو في خزائن الله، يفتح منهما ما شاء على من يشاء؛ إذ أمره تعالى بين الكاف والنون. وما أمر الساعة، التي يفتح الله فيها الفتح على عبده، بأن يميته عن نفسه، ثم يحييه بشهود طلعة ذاته، إلا كلمح البصر أو هو أقرب. لكن حكمته اقتضت الترتيب والتدريج، فيُخرجه إلى هذا العالم جاهلاً، ثم يفتح سمعه للتعلم والوعظ، وبصره للنظر والاعتبار، وقلبه للشهود والاستبصار، حتى يصير عالمًا عارفًا بربه، من الشاكرين الذين يعبدون الله، شكرًا وقيامًا برسم العبودية. وبالله التوفيق.